تحذيرات تركيا لإيران- صراع نفوذ مكتوم في سوريا والقوقاز.

المؤلف: سمير العركي09.14.2025
تحذيرات تركيا لإيران- صراع نفوذ مكتوم في سوريا والقوقاز.

تضع وزارة الخارجية التركية نصب أعينها هدفًا ساميًا يتمثل في تطوير العلاقات الثنائية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وذلك بالارتكاز على أسس راسخة من عدم التدخل في الشؤون الداخلية لكلا البلدين، والاحترام المتبادل الذي يعزز الثقة، وحسن الجوار الذي يضمن الاستقرار الإقليمي، هذا ما أكدته الوزارة على موقعها الرسمي، موضحةً الأهداف التي تتطلع إليها أنقرة في علاقتها مع طهران.

وينسجم هذا التوجه مع المبادئ الجوهرية التي أرستها معاهدة الصداقة الموقعة بين تركيا وإيران في شهر أبريل من عام 1926، والتي تضمنت أسسًا متينة للعلاقات الثنائية، قوامها الصداقة المتينة، والحياد الإيجابي، والابتعاد عن كل ما يؤجج نيران الحروب، كما أكدت المعاهدة على إمكانية تضافر الجهود للقضاء على أي تهديدات انفصالية قد تظهر داخل حدود أي من الدولتين.

وعلى مر العقود، شهدت العلاقة بين البلدين مزيجًا من التنافس الشريف والتعاون البناء، إلا أنها لم تخلُ من تداعيات صراعات تاريخية عميقة الجذور، تعود إلى حقبة الصراع المرير بين الدولتين العثمانية والصفوية، والذي انتهى بتوقيع معاهدة "قصر شيرين" في شهر مايو من عام 1639، هذه المعاهدة التاريخية وضعت حدًا لقرن ونصف من الاقتتال الدامي، ورسمت الحدود الحالية لإيران مع كل من تركيا والعراق.

وفي العقدين الأخيرين، تصاعدت وتيرة الصراع الجيو-إستراتيجي والجيو-سياسي بين أنقرة وطهران، وذلك نتيجة لتوسع النفوذ الإيراني المتزايد في العراق، عقب سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وامتداد طهران الواسع في سوريا بعد ثورة عام 2011، بالإضافة إلى تعزيز الحضور الإيراني الملحوظ في لبنان واليمن.

وقد مثلت هذه التطورات تحديًا كبيرًا للرصيد الجيو-إستراتيجي لتركيا، إلا أن المشهد الإقليمي شهد تحولات جذرية، مع سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي، وتراجع النفوذ السياسي والعسكري لحزب الله اللبناني.

هذه التحولات الإقليمية قلبت الموازين، ومنحت تركيا مكاسب إستراتيجية كبيرة على حساب إيران، مما أدى إلى شعور طهران بالهزيمة أمام أنقرة للمرة الثانية في غضون سنوات قليلة، وهو ما سنسلط عليه الضوء لاحقًا.

وفي هذا السياق، يأتي التوتر الذي شهدته العلاقات بين الطرفين في الأيام الأخيرة، على خلفية التحذيرات التي أطلقها وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، ليكشف عن الغضب المكتوم الذي يختلج في صدور كلا الطرفين.

تحذيرات فيدان

في مقابلة حصرية مع قناة الجزيرة، انتقد وزير الخارجية التركي السياسة الخارجية الإيرانية، التي تعتمد على أذرعها المسلحة في المنطقة، واصفًا إياها بأنها تنطوي على "مخاطر كبيرة رغم بعض المكاسب التي حققتها"، ومؤكدًا في الوقت نفسه أن طهران "تكبدت تكلفة أكبر بكثير مقابل الحفاظ عليها".

وفي رده على سؤال حول احتمال دعم إيران لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" أو وحدات الحماية الكردية "YPG" ضد تركيا، وجه فيدان تحذيرًا شديد اللهجة إلى إيران، قائلًا: "يجب ألا ترمي الحجارة إذا كنت تعيش في بيت من زجاج"، وأضاف: "إذا كنت تسعى إلى إثارة بلد ما من خلال دعم مجموعة معينة هناك، فقد تواجه موقفًا حيث يمكن للبلد المذكور أن يزعجك من خلال دعم مجموعة أخرى في بلدك".

وعقب هذه التصريحات والتحذيرات، استدعت وزارتا الخارجية في البلدين كلاً من السفير التركي في طهران، والقائم بالأعمال الإيراني في أنقرة، للتعبير عن الاستياء المتبادل من التصريحات الصادرة.

الغضب المكتوم

لا يمكن النظر إلى تحذيرات فيدان بمعزل عن حالة الغضب المتراكم لدى تركيا على مدى السنوات الماضية، وذلك نتيجة لنهج إيران الذي يضر بالأمن القومي التركي، وعدم احترامها لبنود معاهدة الصداقة المبرمة بين البلدين.

وقد تجلى هذا النهج الإيراني في عدة مظاهر، أبرزها السعي الحثيث لإحداث تغيير ديموغرافي ومذهبي واسع النطاق في سوريا، التي تمثل العمق الإستراتيجي لتركيا، وذلك من خلال تفريغها من المكون العربي السني، وإحلال المكونين الشيعي والكردي مكانه.

كما تعمدت السلطات الإيرانية انتهاك اتفاقية خفض التصعيد الموقعة عام 2017، وذلك من خلال قصف المناطق المشمولة بالحماية عبر التنظيمات المسلحة المرتبطة بها، وبالتنسيق مع روسيا وقوات نظام بشار الأسد.

إضافة إلى ذلك، تتهم تركيا إيران بدعم ومساندة حزب العمال الكردستاني "PKK"، ففي شهر مايو من عام 2023، كشف وزير الداخلية التركي السابق، سليمان صويلو، عن قيام الحزب بنقل معسكره الرئيسي من جبال قنديل في شمال العراق إلى منطقة ماكو في إيران، بالقرب من الحدود التركية، وأكد صويلو: "بالرغم من نفي إيران وجود المعسكر، إلا أن تركيا على علم بوجوده وما يدور فيه".

وفي شهر مايو من العام 2024، جدد وزير الدفاع التركي، يشار غولر، التعبير عن استيائه قائلًا: "إن نهج الإيرانيين ليس لطيفًا على الإطلاق، نتحدث إليهم ونقدم لهم معلومات مفصلة عن تحركات حزب العمال، لكنهم يردون علينا دائمًا بالنفي، ويؤكدون أنه لا يوجد أحد"، وأضاف: "لا شك أننا منزعجون للغاية من هذا الأمر".

ومع سقوط نظام بشار الأسد، بات من الواضح أن تركيا لن تسمح بتزعزع استقرار الأوضاع في سوريا مرة أخرى، بعد أن أصبحت على بعد خطوات قليلة من إغلاق ملف تهديد حزب العمال الكردستاني إلى الأبد.

كما أن المساس بالأمن القومي السوري، يتردد صداه على الفور في أنقرة، كما أظهرت سنوات الفوضى التي عانت منها سوريا على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية.

سوريا.. هل كان ثمة انقلاب؟

بعد أيام قليلة من تصريحات فيدان، اندلعت مواجهات عنيفة في منطقة الساحل السوري، إثر هجوم واسع شنته مجموعات مسلحة مرتبطة بالنظام السوري السابق، وتتلقى دعمًا من قوى خارجية، وفقًا لتصريح مسؤول في الحكومة السورية.

استهدف الهجوم قوات الأمن العام، وأسفر عن سقوط العشرات من القتلى والجرحى، كما أدى إلى سيطرة هذه المجموعات على أجزاء واسعة من محافظتي طرطوس واللاذقية.

إلا أن الهبة الشعبية الواسعة، والتحرك الفعال لقوات الأمن العام ووزارة الدفاع، ساهما في التصدي للهجوم المباغت الذي وصف بأنه كان محاولة انقلاب تم ترتيبها بمساعدة جهات خارجية، حيث وجهت أصابع الاتهام نحو إيران.

الجدير بالذكر هو التحرك التركي السريع لدعم ومساندة القوات السورية في مواجهة تمرد الساحل.

إذ نفذت الطائرات الحربية التركية غارات جوية على مواقع قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، بهدف منعها من القيام بأي عمليات متزامنة في ريف حلب الشرقي، وربما في المدينة نفسها.

كما شنت الطائرات المسيرة التركية غارات على مواقع وحدات الحماية الكردية، في حيي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، فيما دفع الجيش التركي بتعزيزات عسكرية كبيرة لتغطية تقدم مقاتلي الجيش السوري باتجاه منطقة الساحل.

هذه التحركات التركية المنسقة والسريعة، أعادت إلى الواجهة تحذيرات فيدان، وأكدت على طبيعة التحركات التي تقوم بها الدولتان في الأراضي السورية.

الصراع التركي الإيراني في سوريا

لا تزال إيران تعاني من تداعيات الهزيمة الجيو-إستراتيجية التي منيت بها في منطقة القوقاز، ففي عام 2020، تمكنت القوات الأذرية، بدعم ومساندة تركيا، من إلحاق الهزيمة بالقوات الأرمينية، واستعادة السيطرة على إقليم ناغورني قره باغ، ثم بسطت سيطرتها الكاملة عليه في عام 2023.

هذا الانتصار منح تركيا مكاسب إستراتيجية واسعة في منطقة القوقاز، ومهد الطريق لربطها بريًا من جديد بتلك المناطق، إضافة إلى مناطق آسيا الوسطى، وذلك مع استكمال إنشاء ممر زنغزور الإستراتيجي، الذي سيعيد ترتيب الأوضاع في جنوب القوقاز، على حساب النفوذ التقليدي الذي كان متوفرًا لإيران، والذي من المتوقع أن يتراجع بشدة.

وفي المحطة التالية، تكبدت إيران خسارة إستراتيجية كبيرة، بسقوط نظام بشار الأسد، لصالح منافستها التقليدية تركيا، التي أعادت تموضعها الإستراتيجي بانتصار الثورة السورية.

فالتعاون الوثيق بين إيران، منذ انتصار ثورتها عام 1979، ونظام البعث السوري، منحها تفوقًا إستراتيجيًا في مواجهة تركيا، إذ حرم الأخيرة من مجالها الحيوي في منطقة الشام، والذي تحول لاحقًا إلى مصدر تهديد أمني منذ تأسيس حزب العمال الكردستاني برعاية حافظ الأسد.

كما وفر هذا التعاون لإيران ممرًا حيويًا إلى البحر الأبيض المتوسط، وأتاح لها تأسيس قواعد متقدمة للدفاع عن مصالحها في لبنان بواسطة حزب الله.

لذا، لم يكن من المتوقع أن تستسلم إيران لخسارة سوريا، والخروج منها خاليةَ الوفاض، وهذا ما تدركه تركيا جيدًا وتتخذه في الحسبان.

وفي هذا السياق المضطرب والمتوتر، يمكن فهم تحذيرات فيدان، وكذلك التحرك السريع والمنظم لقوات الجيش التركي، لدعم نظيره السوري في مواجهة التمرد أو "الانقلاب" الذي حدث في منطقة الساحل.

فهذا التبدل الحادث في موازين القوة الإقليمية، يتزامن مع تعزيز الحضور التركي على المستوى الدولي، حيث يتعاظم حاجة الدول الأوروبية إليها في بناء بنيتها الأمنية الجديدة، وتدور المفاوضات حاليًا حول كيفية هذه المساهمة وما يمكن أن تقدمه القارة الأوروبية لأنقرة في المقابل.

إضافة إلى الدور المرتقب الذي يمكن أن تلعبه أنقرة في مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا.

هذه الأوراق الرابحة التي تتجمع في يد أنقرة، ستعمل على توظيفها لتعزيز حضورها الإقليمي، وخاصة في الملف السوري الشائك.

وعلى النقيض من ذلك، تعيش إيران أيامًا عصيبة مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي ألمح مؤخرًا إلى إمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري في التعامل معها، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا العالقة.

يأتي هذا التهديد في ظل أوضاع اقتصادية صعبة تواجهها إيران، بسبب العقوبات الأميركية الضاغطة، والتي من المتوقع أن تزداد حدتها خلال الفترة المقبلة.

لهذا، سيكون من الصعب على إيران الصمود طويلًا في لعبة "عض الأصابع" مع تركيا، خاصة في ظل الحاجة الماسة إليها لمواجهة تقلبات المرحلة المقبلة.

الأمر الذي قد يدفع طهران إلى القبول بسياسة الأمر الواقع، والاعتراف بالمسار الجديد في سوريا، ومن ثم الكف عن أي تدخلات من شأنها أن تضعها مباشرة في مواجهة مع تركيا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة